التغير بإرادة الإنسان

التغير بإرادة الإنسان


الواقع عموماً- والواقع السيء على الخصوص- ليس قدراً مقدوراً لا يمكن تغييره وإزالته، بل لدينا الإرادة المطلقة في تغييره وتبديله، فقد جعل الله عز وجل أمر هذا التغيير داخلاً في إرادة الإنسان كيفما يشاء، ولا يتدخل الله عز وجل إلا إذا غير الناس أولاً واقعهم.

فالأصل أن الناس يسيرون على واقع سليم، ناتج عن تصور سليم، نابع من منهج الله عز وجل، وفي هذا الواقع يعيش الناس في ظله، يقطفون ثمرة سعادة وراحة وطمأنينة، ولكن حينما يغير الناس هذا الواقع بإرادتهم وينشئون واقعا من الأصل خاطئاً، أو لا يرضون من حيث المبدأ قبول الواقع الذي يريده الله لهم، حتى نغير هذا التغيير سنواجه واقعاً جديداً، واقعا سيئاً على الدوام ما دمنا خرجنا عن الخط الذي يريده الله سبحانه لنا، حينئذ فقط يغير الله أحوالنا وواقعنا إلى عنت ونقمة وضنك، نجني منه التعاسة والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.

ولذلك ينبهنا القرآن الكريم إلى هذه الناحية فيقول الله عز وجل:''إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم''، فالله عز وجل يغير نعمة الصحة والراحة، والغنى والعفة والرضا والستر وغيرها إلى ضدها، لأن الناس لم يرضوا بنعمة الله النابعة من الواقع الإسلامي الرشيد.

وانظر كيف يعبر القرآن الكريم عن التغيير بأنه تغيير في النفس، ولا يذكر تغيير الواقع،ليدل بعمق ودقة إلى أن تغير الواقع إنما ينشأ من تغير التصورات والأفكار للحياة التي يريدها أفراد المجتمع.

وتشير الآية الكريمة إلى أن الله عز وجل يترك للناس حرية رسم واقعهم إذا لم يريدوا السير على واقعه، وحينئذ يتحملون المسؤولية كاملة ''حتى يغيروا ما بأنفسهم'' فيتدخل الله عز وجل ويتحملون تبعة هذا التدخل المنعكس على واقعهم.

ولما كانت إرادتنا كاملة في إيجاد هذا الواقع السيء، فإرادتنا كاملة أيضاً في ازاحته، وان لم ينشأ ذلك، فسيزداد سوء الواقع على الأيام سوءاً، حتى يصبح أعراضاً كلياً عن واقع الإسلام، ومنهج الله عز وجل، ويصل المجتمع إلى درجة البعد والغي والظلم وعمى البصيرة، فيستحق بعد ذلك الأفراد جزاءهم قال الله تعالى: ''ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى''.

ومسؤولية هذا التغيير لا تتحدد بعدد معين قل أو كثر، فهي مطلوبة أولاً من الفرد لأنه نواة المجتمع، والمتضرر الأول من الواقع السيء، فالنبي صلى الله عليه وسلم يطلب من الفرد تغيير واقعه السيء فيقول:'' من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك اضعف الإيمان''،ومطلوبة من الجماعة، فيبين الرسول الكريم هذه المسؤولية الجماعية في تصوير فني بليغ، إذ يشبه المجتمع بسفينة فيها الصالح والطالح، ويبين واجب الصالحين تجاه أي محاولة من غيرهم تريد تغيير الواقع السليم الصالح إلى واقع خاطىء لا يرضى الله عز وجل وان السكوت عن هؤلاء جريمة يستحق عليها الصامتون عقوبة الدنيا والآخرة، وان التحرك تجاه رفض هذا الواقع الجديد والأخذ على يد القائمين عليه بالوسائل المتاحة مدعاة لنجاتهم جميعاً، الصالحون والطالحون، فيقول الرسول الكريم: '' مثل القائم في حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا:لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا،فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعاً''.

فالواقع المسلم هو الواقع السليم فلا ينبغي أن نجاري أوضاعاً أخرى تحت أي اسم كالتقدم أو التطور، مقابل أن نتخلى عن قيمنا ومقومات حياتنا الأخلاقية والإنسانية، فعلينا أن نرتفع بواقع الناس كل في موقعه إلى إحياء جذوة الإسلام في القلوب والنفوس والأفعال، حتى نرقى ونسمو، فالإسلام مطلوب لا طالب، فواجبنا جميعاً أن نخضع واقعنا وواقع الناس لشرع الله القويم، لا أن نهبط بشرع الله إلى واقع الناس الهابط، وصدق الله العظيم: ''إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم''.